recent
أخبار ساخنة

| القاهرة سنة 1950: منافسة بين عاملات الجنس المصريات والأوروبيات تحت حماية القانون



فعل سيء السمعة، يُجرمه القانون، ويُنظر لمن يمارسه على أنه «فاسق» خارج عن تقاليد وعادات المجتمع، هذا هو حال «الدعارة» في مصر حاليًا، لكن كتاب «المجتمع السري في القاهرة» يكشف الوجه الآخر لمصر قبل ثورة 23 يوليو 1952، حيث كان القانون يبيح «ممارسة الدعارة»، ويمنح تراخيص لمن تمارسها، قبل أن يجرى تجريم المهنة عام 1951، بالعقوبة بالحبس لمدة لا تقل عن 6 أشهر، وغرامة لا تقل عن 25 جنيهًا ولا تزيد عن 300 جنيه.
«المجتمع السري في القاهرة»، كتاب صادر عن دار العربي للنشر والتوزيع عام 2001، للدكتور عبد الوهاب بكر، أستاذ التاريخ بجامعة الزقازيق، يكشف فيه نشاط «البغاء» بالقاهرة في الفترة من 1900 إلى 1951، ويتحدث عن «مجتمع الدعارة»، ويحدد مفاهيم أبطال هذا المجتمع.

يبدأ الكاتب بتحديد مفهوم «البغاء» بقوله: «البغاء لغة هو الاتصال الجنسي غير المشروع، وفي التشريعات المصرية في القرن العشرين تُعرف البغي بالمومس، والكلمة مشتقة من (المماسة) التي هي كناية عن المباضعة، ومن التماس في قوله تعالى (من قبل أن يتماسا)»، كما جرت المحاكم المصرية في الفترة من 1900 إلى 1950 على تعريف «البغاء» بأنه «إباحة المرأة نفسها لارتكاب الفحشاء مع الناس دون تمييز مقابل أجر».
كانت «المومس» تعمل بمفردها أحيانًا في عدة مناطق، لكن الغالبية العظمى كانت تعمل وفق نظام مؤسسي يقوم على تقسيم العمل، وتوزيع الأدوار، وتحكمه مجموعة من العلاقات تُشكل طبيعة البناء المجتمعي لـ«مجتمع البغاء»، ويرتبط استمرار نشاط «البغاء» بقدرة من يعمل به في الحفاظ على بنائه الاجتماعي، واحترام ثقافته الخاصة، وقواعد العمل، وقانونه الخاص.
بحسب الكاتب، فإن البناء الاجتماعي لمجتمع «الدعارة» بمدينة القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين كان يتألف من سلم هرمي يستقر في قاعه «المومسات» اللاتي يكون القاعدة الأساسية لنظام النشاط، ويأتي فوقهن مجموعة «البدرونات»، وهن مديرات «بيوت الدعارة المُرخصة»، ثم «السحابات أو السحابين»، الذين يزودون البيت بـ«المومسات» الجدد، ثم «القواد» الذي يُدير النشاط كله من خلال جلب الزبائن، وتشغيل العنصر البشري الذي يقوم عليه النشاط، وفي النهاية يأتي «البرمي» الذي يقوم بدور «عشيق المومس» في بعض الحالات.
القواد
يعتبر «القواد» أهم عضو في مجتمع البغاء، ويعرفه الكاتب بأنه القائد، فهو يقود «المومسات» ليمارسن نشاطهن في مجال البغاء، وعرفته المحاكم المصرية بأنه «كل من ساعد أو عاون على بغاء الغير في الطرق العامة، أو حمى هذا البغاء، واقتسم ما يدره من دخل مع علمه بذلك»، ولم تكن القوانين المصرية تعاقب «القواد» فيما يفعله من التعيش على ما تكسبه «المومس» ختى عام 1951.
وعن علاقة «القواد» بـ«المومس»، يقول الكاتب: «القواد لا يدفع للمومس أجرها كاملًا، بل يستقطع منه نسبة كبيرة، مقابل الخدمات التي يؤديها أو يزعم أنه يؤديها لها، وقد لا يدفع الأجر من الأساس، بزعم أن نصيبها من الربح قد استهلك في خدمات صحية أو قانونية، أو نفقات للملبس، أو المفروشات، أو الأثاث»، كما أن «القواد» يُمارس وظيفة الضبط الاجتماعي داخل مجتمع البغاء، من خلال التحكم في المصالح الاقتصادية لـ«المومسات»، ويستطيع أيضًا أن يُدمّر «المومس»، بإبلاغ أهلها عن سلوكها الذي تخفيه، أو إطلاق الشائعات عن إصابتها بأمراض خبيثة تنفر العملاء منها.
وفي عالم البغاء، يتنافس «القوادون» للحصول على «مومسات» بعضهم، وهذه الظاهرة متواجدة حتى الآن، لكن الكاتب يُضيف: «في هذا التنافس يجرى استخدام الأسلحة البيضاء، وماء النار، والمومس تنتظر نتيجة المعركة لتتبع الأقوى في النهاية».
البدرونة
كلمة إيطالية تُعني «مالكة»، أُطلقت في مصر على مديرة المنزل الذي يُدار لـ«الدعارة»، وكانت تُسمى في أدبيات القرن التاسع عشر «العايقة»، والكلمة مجازًا تدل على المتأنقة في ملبسها وزينتها، ويُقال «فلانة عايقة»، وأطلقت على مديرة دار «الدعارة» في مصر، باعتبار أن «العايقة كانت مومس سابقة تقاعدت بعدما تجاوزت سن الطلب، فقررت الاستمرار في النشاط نفسه بمهمة أخرى»، أما الكاتب فيُعرف «البدرونة» في تلك الفترة بقوله: «المرأة الساقطة التي تبيح لها رخصتها إدارة منزل للدعارة، وهي عادة من البغايا اللاتي كبرن، وكسدت بضاعتهن».
ويضيف: «كانت البدرونة هي القائمة على إدارة شؤون بيت الدعارة المالية والإدارية، وتوزيع العمل على المومسات، ودفع أجورهن، ومواجهة التعقيدات الأمنية».
وعن علاقة «البدرونة» بـ«المومس»، فهي أشبه بعلاقة الأخيرة بـ«القواد»، إذ كانت بمثابة «بقرة حلوب» تقع بين «القواد والبدرونة يحلبانها حتى يجف الضرع».
البرمي
يُعرفه الكاتب بأنه «عشيق المومس»، حيث تسعى «المومس» إلى التعلق بذيل الرجل وتعتمد عليه، وتأخذ من عشيقها زوجًا حقيقيًا لا تكسبه وثيقة الزواج الصفة القانونية، لكنه يكتسب صفته من واقع وحقيقة علاقته بـ«المومس»، كما تجمع أحيانًا «المومس» بين عشيقها وزوجها في وقت واحد، ولا يميز هذا وذاك سوى وثيقة الزواج.
العشق في حالة «المومس» له معنى يتعدى الحب في معناه المجرد، إلى معنى آخر فحواه «المعاشرة المستمرة المبنية على تبادل المنافع»، فـ«المومس» تقدم لـ«البرمي» ضمانا بقضاء شهوته على وجه الاستمرار دون جهد يبذله من أجل البحث عن امرأة يقضي شهوته معها، فيما يقدم «البرمي» لها ضمانًا بالحماية في مجتمع البغاء.
السّحاب والبلطجي
الكلمة مشتقة من سحب الشيء إلى مكان معين، فالسّحاب هو الشخص الذي يسحب المرأة إلى «القواد» ليتولى الأخير تشغيلها في نشاط «الدعارة»، أما البلطجي غالبا ما يكون خادما او تابعا لـ«القواد»، ويقوم ببعض الأعمال المساعدة كتوصيل العملاء،أو مراقبة رجال الشرطة، أو حماية بيت الدعارة، من محاولات الاعتداء عليه من جماعة منافسة.
الحوض المرصود
عام 1902، ظهر ما يُسمى «الحوض المرصود»، وهو مكتب الكشف على «المومسات» في القاهرة، حيث يجتمعن في مكان واسع، لأخذ عينات من أجهزتهن التناسلية للفحص، وكان بمثابة «مكتب منح تراخيص ممارسة البغاء».
يقول الكاتب: «كان الحوض المرصود هو مصدر الرعب للمومسات الوطنيات المرخص لهن بممارسة مهنة البغاء، ففيه يصدر التصريح باستمرار المومس في مهنتها، ومنه يصدر القرار بمنعها من ممارسة المهنة حتى تشفى، كان هو المكان الذي تحاصره فرق البلطجية والبادرونات والقوادين وقت الكشف أو عند انتهاء علاج المومس من الأمراض السرية ليعودوا بها إلى بيت الدعارة خشية الهرب».
أماكن البغاء
كانت مدينة القاهرة هي المكان الذي تلجأ إليه «المومسات»،  وتركز النشاط في مناطق منتعشة اقتصاديًا وليست فقيرة كحي بولاق- على سبيل المثال- وهذا يدحض بعض الآراء التي تقول إن نشاط البغاء يكثر في الاحياء المتخلفة المزدحمة، حيث كان «البغاء» منتشرًا في النصف الأول من القرن الـ20 بمناطق «باب الشعرية، حي الأزبكية، الموسكي، كلوت بك، وعابدين».
يقول الكاتب: «أصبح سوق البغاء في القاهرة منتعشًا، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية (1939 – 1949)، حيث جاءت إلى مصر أعدادًا ضخمة من جنود الاحتلال الإنجليزي، والقوات المتحالفة مع بريطانيا، حيث كانت أعداد قوات الحلفاء 127 ألف رجل في الفترة من أكتوبر 1940 إلى مارس 1941».
وبحسب عدة دراسات عرضها الكاتب، فإن أكثر المدن إمدادًا للقاهرة بـ«العاهرات» في النصف الأول من القرن الـ20، هي الإسكندرية، تليها «الغربية، كفرالشيخ، المنوفية، الشرقية، والمنيا»، أما محافظتي قنا وأسوان، فلم يكن لهما نصيب في عملية توريد «البغايا» إلى القاهرة.
وعن أسباب تصدر الإسكندرية للمدن الأكثر توريدًا لـ«العاهرات»، يقول الكاتب: «هناك تشابه بين الإسكندرية والقاهرة في المدنية، والثقافة، والاقتصاد، حيث تهاجر القاهريات إلى الإسكندرية صيفا، وهذا يوفر فرصة للعاهرات لتقمص شخصيات كاذبة لا يستطعن تحقيقها في القاهرة، حيث محل إقامتهن الدائم، وفي الشتاء ترحل عاهرات الإسكندرية إلى القاهرة، ويمارسن نفس الحرفة، أما المنوفية فتتميز بقربها من القاهرة وبازدحامها بالسكان، ما يؤدي إلى قلة الدخل، وبالتالي الهجرة إلى موطن أفضل ظروفًا من حيث تدبير وسائل الحياة».
المومسات الأوروبيات
لم تكن «سوق الدعارة» خالصة لـ«المومسات» المصريات، فقد شاركهن ونافسهن فيها «المومسات» الأوروبيات، حيث توافدن بكثرة إلى القاهرة في ظل القوانين والتعليمات التي كانت تبيح للأجانب التدفق إلى البلاد في عهد الخديو سعيد، والخديو إسماعيل، ثم زاد مع قدوم الاحتلال البريطاني عام 1882.
يقول الكاتب: «سيطر القوادون الأجانب على حي الدعارة الأوروربي في (وش البركة) أحد أحياء القاهرة، ولم يكترثوا بجهاز الشرطة، بفضل نظام الامتيازات الأجنبية، حيث كان يخضع النشاط الإجرامي للأجانب لقضائهم بتشريعاته الباهتة، وبلغت عدد المومسات الأجانب في القاهرة عام 1922، 308، و475 عام 1925»، ما يُشير إلى ارتفاع عمليات استيراد «المومسات» عام 1925، بسبب ارتفاع مد النفوذ الاحتلالي في البلاد، عقب سقوط وزارة سعد زغلول، أواخر 1924.
google-playkhamsatmostaqltradent