واجهة فخمة وستة طوابق تراصت فوق بعضهما بانتظام، رائحة العراقة تنبعث من مدخل العمارة، المستقرة في أحد أرقى أحياء القاهرة، مصر الجديدة.. هنا كان يعيش الرئيس الأسبق لمصر حسني مبارك، لا أحد يدخل أو يخرج من العمارة، تبدو كمهجورة، بخاصة بعد نظرة إلى الشقة رقم 9 في الطابق الثاني حيث كان يعيش مبارك وزوجته وطفليه، قبل أن ينتقل إلى قصر الرئاسة لممارسة عمله نائبا لرئيس الجمهورية في أواخر السبعينات.
على الجهة الخلفية من العمارة، يجلس رجل تجاوز الستين من عمره، ينظر إلى الطابق الثاني حيث كان يعيش مبارك، يبتسم، ويتذكر: "مبارك كان متعود يلعب كل يوم رياضة في البلكونة أنا كنت بشوفه يوميا بيعمل كدا قبل ما يروح الشغل"، لدى عادل السويسي الذي يجاور الرئيس الأسبق في السكن، ذاكرة مثقلة بالمواقف والأحداث التي عاشها وكان شاهدًا عليها، فهو يقطن هنا منذ أكثر من 46 عامًا.
في يوليو عام 1972، حزم العشرات من الخبراء الروس حقائبهم، وغادروا العمارة أمام أعين عم عادل الذي كان لايزال صبيا في المرحلة الإعدادية، وذلك امتثالًا لقرار الرئيس الراحل السادات بطرد الخبراء الروس من مصر، لتخلو العمارة من السكان، قبل أن تستقبل بعد أشهر قليلة سكانًا جدد، كان من بينهم قائد القوات الجوية، حسني مبارك، ليتقر فيها حتى بعد حرب اكتوبر والنصر ثم تعيينه نائب رئيس الجمهورية، يتذكر عادل: "وهو نائب للسادات قعد في الشقة حوالي شهرين وبعد كدا راح القصر الرئاسي عشان يمارس مهام عمله".
عيد ميلاد مبارك كان يومًا عاديًا، لا احتفالات ولا أصوات صاخبة تخرج من شقته الهادئة، بحسب ما يوضح عادل في حديثه ومنذ عام 1979، لم يعد مبارك لهذه الشقة مرة أخرى، رحل ورحلت معه الإجراءات الأمنية المشددة، التي كانت تجعل عم عادل على استعداد أن يترك باب بيته مفتوحًا وينام وهو آمن، لكن عند وفاة والدة مبارك، خرجت جنازتها من هذه الشقة، وتلك كانت المرة الوحيدة التي يعود فيها مبارك إلى شقته بعد أن هجرها قبل عشرات السنين.
وفقًا لكلام عادل، فإن مبارك لم يكن من المستغلين لسطلته سواء هو أو أبناؤه.. "ماكنتش تحس إنهم أولاد قائد سلاح الجو اللي انتصر في 6 أكتوبر"، كانوا يتعاملون مع الناس في المنطقة بطريقة عادية جدًا، إلى أن تولى مبارك منصب نائب رئيس الجمهورية.. "اختفوا فترة لأن الإسلاميين وقتها كانوا شادين حيلهم شوية، وبعد كدا مبارك نقل وساب المكان كله".
"كل سنة وأنت طيب يا ريس".. تلك هي الجملة التي أراد عادل أن يقولها لمبارك في عيد ميلاده، فهو من محبي الرئيس الأسبق، لكنه في نفس الوقت يرى أن الثورة لم تظلمه وكان لا بد من التغيير.. "الناس كانت عايزة تغيير، مبارك كان لازم يمشي، والثورة مظلمتش مبارك ولا غيره، الإخوان هما اللي ظلموه وطلعوا عليه إشاعات".
لا زال علي الذي يعمل "فكهاني" بالقرب من شقة مبارك، يتذكر تفاصيل ذلك اليوم جيدًا.. "علاء وجمال كانوا بيحبوا يلعبوا كورة وكانوا بيجمعوا الشباب اللي بتلعب خماسي كويس وأنا كنت منهم، ولعبت معاهم ماتش كسبنا فيه"، ووفقًا لعلي، الذي يقيم أيضًا بالقرب من منزل مبارك، فإن علاء "حريف كورة"، لكن جمال ليس كأخيه في في هذه اللعبة.
"إزااي الكابتن علاء يخسر في الماتش".. هكذا يتذكر علي كيف أحرز "الكابتن علاء" كل الأهداف في المباراة التي انتهت بفوز فريقه، وعن حب أبناء مبارك للكرة، يتذكر علي أنهم كانوا حريصين على تنظيم دورات رمضانية بشكل سنوي، فهم كانوا حريصين على وجودهم بين الناس، حتى بعد أن أصبح مبارك رئيسًا للجمهورية، وعلى حد قوله "كانوا متواضعين مع الناس".
يلاحظ علي من خلال سكنه بالقرب من منزل مبارك أن الشقة لا تفتح منذ أن غادرها مبارك إلا مرة واحدة كل عام، وتأتي سيارة محملة بالأثاث لتغيير فرش الشقة سنويًا، بالرغم من عدم وجود مبارك أو أي من أبنائه فيها، ومن وجهة نظر علي فإن هذا يدل على تمسك مبارك بهذه الشقة، التي تحمل له الكثير من الذكريات.. "كان أحيانًا بنبعتله خضار على البيت، لكن ماكنش فيه تعامل مباشر عدا ماتش الكورة".
"ربنا يخليك لينا يا ريس.. كل سنة وأنت طيب" تلك الكلمات التي حرص علي على إرسالها إلى مبارك في عيد ميلاده، فهو يرى أن مبارك أفضل من حكم مصر.. "معرفناش قيمته غير لما سابنا"، في الوقت الحالي لا يوجد أمن كما كان في عهد مبارك، إضافة إلى غلو الأسعار.. "الناس مش لاقية تاكل".
بالرغم من صغر سن أحمد الذي يعمل في جراح العمارة التي تستقر فيها شقة مبارك، حيث أنه لم يعاصره، إلا أنه يؤكد من خلال كلام الناس والجيران القدامى أن مبارك كان متواضعًا، وأن الجميع هنا يجمع على حبه له.. "أيامه كانت أحسن أيام.. عايز أقوله كل سنة وأنت طيب يا ريسنا"، فهو لايزال يترحم على أيام مبارك التي كان يشعر فيها بالأمن، على حد وصفه.